فالاعتداء على التراث الإنساني،
ولا سيما المكتوب من أعظم البلايا التي أصابت الحضارة الإنسانية على مر
العصور، فقد كبدت تلك الانتهاكات المستعرة بنيران الحقد والجهل والتعصب
ثروة البشرية وكنوزها الثقافية وذاكرتها الحضارية ملايين المجلدات والوثائق
واللفائف ورقاع الجلد وأفنتها عن بكرة أبيها.
ولأن المكتبات والمحفوظات تمثل
الذاكرة الجماعية والفردية، والمعرفة، والإنجازات للشعوب فإنها تُستهدف على
وجه التحديد أثناء النزاعات المسلحة.
و لعل هذا ما دعا الشاعر
الألماني الشهير «هنريش هاينه» منذ قرون عدّة،. لإطلاق مقولته الشهيرة «حيث
يحرقون الكتب ينتهي الأمر بإحراق البشر» .
لقد طمست تلك الممارسات الهمجية
أجزاء كبيرة من ذاكرة الشعوب وهوياتهم وخلفت فراغات ضبابية في سماء
الحضارة الإنسانية، لذا يقول الباحث أندرو توماس Andrew Thomas بأنه علينا
أن نعتمد على الأجزاء غير المترابطة والعبارات والمقاطع الهزيلة في سبيل
بناء صورة عن الماضي، إن ماضينا البعيد هو عبارة عن فراغ مملوء عشوائيا
بلوحات تذكارية وتماثيل ورسومات وعدة أدوات ومصنوعات أثرية، و لو أن تلك
المؤسسات صمدت حتى اليوم ولم تنل منها معاول التخريب، لكان التاريخ العلمي
مختلفاً تماماً، ولكنا تعرفنا على عظمة أسلافنا القدماء ورقيهم.
ومن هذا المنطلق يقول هانز فان
دير هوفن، من "برنامج ذاكرة العالم" التابع لليونسكو "إن تدمير الممتلكات
الثقافية والمكتبات بشكل خاص هي ممارسات قديمة قدم مفهوم الثقافة نفسه،
والغرض منها محو الذاكرة العرقية والدينية، والثقافية، وبالتالي القضاء على
هويات الجماعات و وجودها، سواء كان ذلك يمارس كجزء من العمليات العسكرية
المخطط لها أو التي تقوم بها الأطراف المتحاربة، كما أنها تلعب دورا هاما
في إبادة العدو.
لقد واجه التراث الإنساني عبر
التاريخ ألواناً شتى من التخريب والنهب لأسباب متفاوتة ولعل أكثرها ضراوة
في فترات النزاع المسلح والاحتلال وكانت تلك الخسائر توضع جملة ضمن خسائر
الحرب ولم يكن هناك قدر من الاهتمام بذلك النوع من الخسائر والتي تعد عند
البعض جرائم إبادة للثقافة، كما أنها أيضا لم تكن جديرة عند الساسة بإقامة
محاكمات خاصة لمرتكبيها، فكانت ولا زالت توضع تلك الجرائم في جملة
الاتهامات الخاصة بجرائم الحرب، و قد ساهم عدم وجود محاكمات خاصة لهذه
الجرائم في الاعتداء المستمر على المكتبات ودور المحفوظات في القرن الحادي
والعشرين.
لا زال الكثيرين منا يظن أن
تدمير ونهب المكتبات والأرشيفات والمتاحف وغيرها من الممتلكات الثقافية
للدول يتم عشوائياً في فترات النزاعات والاضطرابات، وهو الاعتقاد الذي دحضت
مزاعمه محاكمة نورمبرج في 1945-1946 والتي عقدت لمحاكمة اثنين وعشرين من
القادة النازيين، فقد كانت واحدة من اللحظات الهامة في محاكمة نورمبرج أنه
في حكم ألفريد روزنبرج قد اعترف بتدمير المكتبات و نهب المتاحف والمكتبات
ومصادرة الكنوز الفنية والمجموعات والتي صنفت تحت جرائم حرب وجرائم ضد
الانسانية للبلاد التي احتلها النازيون.
The Einsatzstab Reichsleiter Rosenberg (ERR)
تأسست رسميا في باريس وتم
تقسيمها إلى أقسام وظيفية مختلفة، تم نقل الإدارة المركزية لمنظمة ERR إلى
برلين في 1 مارس 1941 حيث أصبحت قسما رسميا في وزارة الخارجية الألمانية.
كان مهمته نهب ومصادرة
الممتلكات الثقافية من المتاحف والمكتبات، ونهب الكنوز الفنية والمجموعات،
ونهب الممتلكات الخاصة في جميع الأراضي المحتلة، وقد أجريت هذه العملية
بطريقة منهجية مع المنظمات التي أنشئت خصيصا لذلك الغرض.
فعلى سبيل المثال لضحايا تلك المنظمة في روسيا البيضاء
"عانت أكثر من مائتي مكتبة في
بيلاروسيا، وخاصة المكتبة الوطنية من الانتهاكات التي مورست بحق مقتنياتها
من قبل النازيين، وتشير التقارير بأن 83 في المئة من مقتنيات المكتبة نهبت
ودمرت بعد الحرب، وقد تم العثور على نحو ستمائة ألف مجلد من المكتبة في
ألمانيا وبولندا وتشيكوسلوفاكيا، وأعيدت في وقت لاحق. وبرغم ذلك فإنه لازال
هناك نحو مليون كتاب، بما في ذلك المجلدات المطبوعة النادرة والقديمة، لا
زالت مفقودة، وقد شملت قائمة ضحايا تلك المنظمة دول عدة منها بلجيكا،
وفرنسا، الاتحاد السوفيتي، بولندا، النرويج، هولندا، ليتوانيا، إيطاليا،
اليونان، و تشيكوسلوفاكيا.
الجدير بالذكر أن تلك
الانتهاكات والاعتداءات الممنهجة للتراث الإنساني لم تكن مرتبطة بزمان و لا
مكان ولا شعب محدد بل هي مستمرة وملازمة للبشرية، ولعل ما يحدث في وطننا
العربي في وقتنا الحالي لهو أصدق دليل على ذلك، فقد استغلت أيدي المخربين
والعابثين الأحوال السياسية والاجتماعية المضطربة لبعض الدول العربية وراحت
تعبث بإرثها الثقافي والحضاري ففي مصر وتونس وليبيا والعراق وسوريا دمرت
بعض المواقع التراثية والآثار التاريخية وسرقت المتاحف ودمرت المكتبات
والأرشيفات وسرقت محتوياتها، وما ذلك إلا حملة منظمة تقوم بها قوى وجهات
معينة تهدف إلى طمس الإرث الثقافي والبنيان الاجتماعي والحضاري للأمة
العربية بهدف خلق شعوب مفككة بلا تاريخ حضاري ولا بناء فكري قومي وبلا
أهداف وطنية مشتركة.
من هنا جاءت الحاجة الماسة إلى
حماية الموروث الثقافي من التخريب أو النهب، وخاصة أن حماية تلك الممتلكات
الثقافية لا تقل أهمية عن حماية الكيان المادي للإنسان.
وهو الأمر الذي فرض على المجتمع
الدولي ضرورة وضع حداً للتعديات على تلك الممتلكات أثناء النزاعات المسلحة
وأن يفرض التزامات بالحماية والاحترام على كافة أطراف النزاع المسلح تجاه
الممتلكات الثقافية.
فتحقيق العدالة من خلال ملاحقة
ومعاقبة المسؤولين عن تدمير المكتبات والمحفوظات هي خطوة ضرورية تحتاج
لمجهود عظيم لتحقيق السلام والاستقرار وتثقيف الجمهور حول قيمة المكتبات
والمحفوظات للحضارة الإنسانية.