يوليو 05، 2007

واقع القراءة في العراق: ..هل ينتظر الكتاب جيلا آخر

معروف عن العراقيين انهم قراء نهمون
ويعطي المجتمع قداسة للمتعلمين، والكتب. وكانت القراءة ذات زمن هي المتعة الأولى للنخبة. ساد هذا قبل وصول الفضائيات والكومبيوتر، اذ تمتع المجتمع حينذاك ببعض من الاستقرار، قبل بدء الحروب المتواترة التي شملت، لا الجبهات فقط، بل مفاصل الحياة كلها. كانت المعرفة تستحصل من الكتاب، حصرا، عكس ما يحدث اليوم، وهي ظاهرة لا تقتصر على العراق حسب، ولكن لها أبعادا عالمية. اثناء الحصار على العراق في بداية التسعينيات من القرن الماضي، عانى الكتاب من أزمة كبيرة، سواء المستورد منه، ام المطبوع في الداخل.

شحّ الورق وتخلفت مكائن الطباعة وندرت المواد الكيمياوية الضرورية. رافق ذلك عقبات على صعيد التمويل بالعملة الصعبة والرقابة المشددة والتوزيع. فلم يكن التعامل بالدولار سهلا، لذلك عانى التجار من صعوبة شراء الكتاب من المعارض والأسواق، فضلا عن ان ادخال الكتاب الى السوق العراقية يتطلب موافقات أمنية ورقابية صارمة، فكان دخوله يتم عبر جهود فردية، وبنسخة واحدة او نسختين، عن طريق الأردن، وكان وقتها هو منفذ البلد الوحيد على العالم. المفارقة ان المهتمين بالكتاب باعوا مكتباتهم البيتية لتمشية امورهم المعيشية، باعوها بأبخس الأثمان، وزاول بعضهم مهنا لا علاقة لها بالثقافة، لا لشيء الا للحصول على لقمة العيش.

ان ندرة الكتاب الجاد، شجع على قيام تجارة اخرى لم تكن شائعة في العراق هي تجارة الاستنساخ. يمكن لنسخة واحدة من رواية الخبز الحافي لمحمد شكري ان تفرخ مئات النسخ، تأخذ طريقها الى البصرة والموصل والناصرية. وكذلك رواية وليمة لأعشاب البحر ودواوين انسي الحاج ورباعيات الخيام، بترجمة احمد صافي النجفي، وكتاب حرب تلد اخرى لسعد البزاز، وذهنية التحريم لصادق جلال العظم. وتلك عينة فقط، تدل على مزاج رائج في عشق كل ما هو ممنوع. ومع ان هذه المهنة ما زالت سارية في بغداد، رغم اختفاء اسبابها، الا أنها بدأت في الانحسار، بعد ان فتحت الحدود وزالت الرقابة وتدفقت الكتب من مختلف المشارب والاتجاهات.

بدأ النساخ ذاتهم يسافرون الى دمشق وطهران وقم وبيروت وعمان لجلب الكتب، بحاسة فائقة لما يفضله القارئ هذه الأيام. ومن يدخل الى المكتبات الخاصة المعروفة في بغداد، ير ان ثمة اشكالية اخرى استجدت هنا. فرغم توفر الكتاب بأنواعه، الا ان حركة بيعه متواضعة، بسبب شحة القارئ او غيابه. الأسعار التي تعرض بها الكتب غير ملائمة لشريحة القراء، ومعظمهم من الطبقة الوسطى. هذه الطبقة سحقت تماما في العقدين الأخيرين، وهي بالكاد تستعيد دورها في المجتمع. والمعروف ان الشريحة المتعلمة كانت، فيما سبق من عهود، هي الوسط الحيوي لتداول الكتب، العلمية منها والثقافية. وذلك ايام ما كانت للمعرفة هالة يطمح للوصول اليها كل فرد عراقي تقريبا. وفوضى الأسعار جعلت تجار الكتب يميزون ما تطلبه نخبة النخبة من روايات مترجمة وأعمال لمشاهير عرب وعالميين، مما جعل اولئك التجار يفرضون السعر الذي يريدون، وهو اضعاف السعر الطبيعي لهكذا كتب.

رواية ريشة دافنشي، على سبيل المثال، تباع في شارع المتنبي بما يقارب العشرة دولارات. وهذا ينطبق على الأعمال التي خلقت صدى لدى القارئ. وذاك ثمن لا يستطيع القارئ العادي دفعه لرواية. ومن ناحية اخرى، ما ان سقط النظام حتى انهار معه جهاز التوزيع الرسمي، فأصبحت المطبوعات تعاني من التكدس في المخازن ومن عدم وجود نقاط ارتكاز، أي مكتبات تهتم بتوزيع الكتاب في المحافظات. دار الشؤون الثقافية التابعة لوزارة الثقافة ظلت طوال ثلاثين سنة هي المسؤول الأول والوحيد تقريبا عن طباعة الكتب وتوزيعها، وفي الآونة الأخيرة من عمر النظام السابق، دخلت هذه المؤسسة في مرحلة الشلل، خاصة مع تحويلها الى رافد اعلامي لدعم ثقافة السلطة، وروجت مئات العناوين من قصة ورواية وشعر ونقد، لدعم اخلاقيات الحرب والقوة، والفكر الشمولي. واقع الحال حاضرا يختلف قليلا، غير ان قانون التمويل الذاتي الذي فرضه النظام السابق ظل ساري المفعول حتى هذه اللحظة. هذا ويسجل هنا اختفاء دور النشر المحلية، مع وجود مطابع متطورة، حيث اختفت تلك الدور بسبب هيمنة القطاع العام على النشر لأكثر من ثلاثين سنة. وأي دار نشر خاصة، او مطبعة، عليها التنسيق مع مديريات الأمن المختصة عند طبع أي كتاب. وهناك مدن صغيرة محرومة، ليس من المطابع والكتب الجديدة فقط، بل ومن الصحف اليومية ايضا. بمعنى آخر خرجت كتل سكانية يعتد بها من دائرة ثقافة القراءة.

وليس غريبا ان نجد أقضية ونواحي وقرى لا توجد فيها مكتبات على الاطلاق.

وفي محافظة الأنبار مثلا لم تعد توجد أية مكتبة تبيع الكتب، واقتصر الأمر على اكشاك توزع الصحف اليومية والمجلات التجارية الرائجة. كذلك في الناصرية لا يجد القارئ سوى مكتبة واحدة، عتيقة، حولت الى بقالية للقرطاسية المدرسية، وكتبها الموجودة قديمة علاها الغبار. المكتبات العامة لم يدخلها كتاب جديد منذ عشر سنوات او يزيد. وهذا ينطبق على اغلب المدن العراقية، وحتى العاصمة بغداد، فهناك مكتبات ينحصر وجودها في شارع المتنبي او شارع السعدون، تعاني من ركود في المبيع واضح. وينبغي على القارئ الجاد، النادر وجوده في الوقت الحاضر، ان يعوض حرمان عشرين سنة من غياب المنشورات المستحقة للمتابعة. ودائرة قطيعته كانت قد اتسعت لتشمل المطبوعات العربية والعالمية، والتقنيات الضرورية لاستحصال المعرفة. آليات التوزيع، وارتفاع سعر الكتاب، ليسا السببين الوحيدين لكساد القراءة، بل هناك سبب كامن في القارئ ذاته. ترسخ لديه اتجاه كبير نحو قراءة الكتب الدينية، مرده ربما الى العقود الطويلة التي حرم فيها الناس من أداء طقوسهم وقراءة كتبهم. هناك قصص حول اشخاص اعدموا بسبب كتاب، وآلاف دفنوا مكتباتهم في حدائقهم البيتية او بساتينهم. ويذكر احد المبدعين حكاية طريفة هي انه حصل على كتاب لسعد البزاز اسمه الجنرالات آخر من يعلم، وهو يدور حول حرب الكويت، وأسرار ادارة الصراع وهيمنة الرئيس على القرارات المصيرية للحرب، والثمن الباهظ الذي دفعه الشعب. ويقول المبدع انه ما ان انتهى من الكتاب ليلا حتى سرت في اوصاله الرجفة خوفا، فبادر الى الخروج الى فسحة الحديقة وحرق الكتاب فورا. ذاك زمن كان فيه العراقي يخاف حتى من المعرفة، بل وحتى من مغامرة التفكير.

واهمال الكتاب له علاقة بمحاولة الفرد العادي الفرار من حرية الفكر لأن عاقبتها معروفة، الا وهي الموت. قبل ان ينهار نظام صدام حسين شكل الكتاب الديني كابوسا على الأجهزة الأمنية، وبالذات كتب المراجع والمفكرين الشيعة، وكان احد كتب محمد باقر الصدر الذي اعدمه النظام في بداية ثمانينيات القرن العشرين، يمكن ان يقود مقتنيه الى الموت. وكذلك المؤلفات ذات الروح المتمردة مثل كتب القمني ونصر حامد ابو زيد وحيدر حيدر وحسن العلوي، وما يرافقه من المعارضين العراقيين.

الكتب الدينية اليوم تلقى رواجا هائلا، وهي تطرح في السوق بثمن رخيص، مع انها ذات اغلفة انيقة وورق فخم، ويعتقد ان جهات دينية تروج لمثل هذه الكتب بل وتدعم سعرها. وهناك شيء من التناقض يعيشه القارئ العراقي عموما، فهو يقع تحت رحمة التقاليد الدينية ووصايا الكتب والقيم السلفية، لكنه في الوقت ذاته منغمر في لجة الحياة العصرية الحديثة، وذلك بعد ان وجدت الكومبيوتر والانترنيت والساتلايت والموبايل طريقها الى كل بيت وشارع وقرية. ارتباك النسيج الاجتماعي برمته، بسبب الهجرات والمعارك والانتقالات المفاجئة بين المدن، والتحولات الاجتماعية العميقة التي فاجأت الجميع، اشاعت ذهنية التسليم والقدرية. اللامنطق كثيرا ما رافق ما يراه الفرد في ما يجري من احداث، وهذا يزيل الحاجة الى الوعي والمعرفة والعقلانية جانبا. القدرية هي الشعار، والخرافة هي التأويل. مثل هذا الاتجاه ضيّق من انتشار الكتب الابداعية كالرواية والشعر والمسرح والنقد، وهذه الحقول اصبحت تعاني من كساد رهيب. تأثير الفضائيات كان هائلا على انحسار موجة القراءة الجادة، فهناك مئات الفضائيات تقدم برامج تعليمية وثقافية وفنية، مع أخبار طازجة، تجعل المواطن يعيش في قلب الحدث بالصورة والتعليق، وهو يلتهم وجبة سريعة لا تحتاج الى جهد ذهني او اساس ثقافي لاستقبالها.

وبشيء من الاستعارة يحق القول ان كتاب الفرد اليوم هو الدش، ومكتبته البيتية هي القنوات الفضائية. الوقت اذن ضيق للقراءة، في لجة المتغيرات التي تحصل في الشارع، وعلى صعيد السياسة اليومية. ظاهرة الهوس بالكتاب من قبل الشباب في أزمان ماضية حل محله هوس من نمط آخر. هوس بالسيارات الحديثة التي دخلت الى العراق بأسعار بخسة. حديث الشباب في كل مكان اخذ يتناول بالتفصيل موديلات السيارات وجمالياتها وأسعارها وسرعها وأعطالها، وهي ظاهرة استشرت بشكل غير معهود نتيجة الحرمان الطويل من هكذا كماليات حياتية.

وما يجعل وقت القراءة ضيقا ايضا هو الكهرباء، فهي غير منتظمة ولا تعطي القارئ احساسا بالأمان اثناء الجلوس ساعات مع كتاب.

كما انعكست الأزمات اليومية كالاختناقات المرورية والانفجارات والبطالة وقطع الطرق على رغبة المواطن وتفاؤله، وبحثه عن افق مستقبلي يقوده الى شاطئ المعرفة، وأمان الحضارة. الخلاصة المبتكرة من هكذا ظروف ضاربة في فوضاها، ان الثقافة لم تعد حاجة يومية ملحة. مثلا عادة الجلوس في المكتبات العامة للقراءة والكتابة والبحث لم تعد جزءا من حياة العراقيين، عكس ما كان الأمر قبل عقود. فأغلب المكتبات العامة خرّبت، ايام سقوط النظام وانتشار الفوضى، وسرقت آلاف الكتب من المكتبة المركزية في بغداد والمحافظات، وهربت مخطوطات الى دول الجوار، وسرقت كنوز آثارية، اضافة الى ان الجو القلق امنيا لا يسمح للفرد بفسحة من الهدوء والاختلاء مع الكتاب. ولا يخفى ان شحة تمويل الجامعات ومكتباتها، بسبب توجيه معظم الأموال، سواء منها ما قدم كمساعدات دولية لاعمار العراق، او ما رصدته الدولة، نحو بناء الجيش والشرطة والمؤسسات الأمنية المرتبطة بحياة المواطن اليومية. كل ذلك ساهم في ان يصبح دور الكتاب في حياة الفرد ثانويا، بل ثانوي جدا.

وعودة القارئ العراقي الى التواصل مع الكتاب قد تستغرق سنين اخرى. والأمر برمته مرتبط بما سترسو عليه التفاعلات، ويتمخض عنه الفرن العراقي الملتهب، المفتوح على جميع الاحتمالات.

ويبدو ان جيلا غير هذا الجيل من سيقوم بالدور

هناك 4 تعليقات:

  1. موفقيييييييييييييييييييييييييييييين

    ردحذف
  2. حابيييييييييييييين نشوف الاخبار والمشاركات الجديدة !

    ردحذف
  3. شكراً لكم ع الموضوعات المتنوعة ... موفقين :)

    ردحذف
  4. الله يعينكم على المجهوووووووووووووود :)

    ردحذف